الحِلْم الحاضر الغائب

الحِلْم الحاضر الغائب

الحِلْم الحاضر الغائب 057

الحِلْم : بمعناه المبسط ليس سوى الصبر على الأذى وتجاهله ، وهو واحد من مكارم الأخلاق الذي حثنا الإسلام عليها حيث يقول المصطفى الله عليه وسلم :
" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "
والتي جعل الله سبحانه وتعالى منها الوصف والصفة والنعت الذي يشيد به رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم فيصفه في كتابه العزيز فيقول عز من قائل في سورة القلم :
" وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ "
ويشيد الحق سبحانه وتعالى بالحلم وأصحابه فيصفهم بالمحسنين فيقول في هذا : -
" الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ "
" آل عمران 134 "

كما أنه نعت به الحق سبحانه وتعالى أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام فقال تعالى : -
" وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ "
" التوبة 114 "
" إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ "
" هود 75 "
وكذاك نعت به نبيه شعيب عليه السلام على لسان قومه فقال عز من قائل : -
" قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لأنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ "
" هود 78 "
بل ووصف به سيدنا إسماعيل عليه السلام فقال تعالى : -
" فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ "
" الصافات 110 "

ولعلو هذا الخلق ورفعته وصف الله العظيم ذاته الشريفة به في أحد عشرة موضعاً من كتابه العزيز " القرآن الكريم " ، ولقد تمثل الهادي البشير بهذا الخلق وجسده أعظم تجسيد فهاهو يقف موقف النبل من أهل مكة في عام الفتح ويعفو ويصفح عنهم رغم ما لقيه من الأذى والجور والظلم منهم في مطلع الدعوة مما أجبره في نهاية المطاف على الهجرة منها فيقول لهم : -
" أذهبوا فأنتم الطلقاء "

ولقد وعي السلف الصالح قيمة هذا الخلق فعملوا به وراعوه أشد الرعاية فكان صبغة من أخلاقهم الرفيعة ، وهذه بعض دلائل تطبيقهم لهذا الخلق الرفيع :-

1- كان الفضيل بن عياض رحمه الله إذا قيل له : إن فلاناً يقع في عرضك ؛ يقول : والله لأغيظن من أَمَره : يعني إبليس ، ثم يقول : اللهم إن كان صادقاً فأغفر لي ، وإن كان كاذباً فاغفر له .

2- وقد قال رجل لأبي هريرة رضي الله عنه : أنت أبو هريرة ! ؟ قال : نعم ، فقال : أنت سارق الهرة !! فقال أبو هريرة : اللهم اغفر لي ولأخي هذا ، ثم قال : هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستغفر لمن ظلمنا .

3- وقال رجل لأبي ذر رضي الله عنه : أنت الذي نفاك معاوية إلى الشام ؟ لو كان فيك خيرٌ ما نفاك . فقال أبو ذر : إن بين يدي عقبة سوداء – يعني القبر – فلو نجوت منها لم يضرني ما قلت فيّ ، وإن لم أنجوُ منها ؛ فأنا شرٌّ مما قلت .

4- وقد قالت امرأة لمالك بن دينار رحمه الله تعالى : يا مُرائي . فقال لها : يا هذه عرفتي لقبي الذي أضلَّه أهل البصرة ، ولم يعرفوه .

5- وكان الحسين بن علي رضي الله عنهما إذا شتمه أحد يقول له : يا أخي ، إن كان قولك صدقاً فسيجازيك الله بصدقك ، وإن كان كذباً فالله أشد نقمة مني لك .

إن هذه نماذج من حلمهم فأين نحن منها ... ؟

الحِلْم الحاضر الغائب I91006357_66383_4

أقســــــــــام الحلـــــم

الحِلْم الحاضر الغائب I106004545_62478

يعتقد الكثير منا أن الحلم حالة واحدة لا يمكن تجزيئها وتصنيفها ، ولكن هذا ينافي الحقيقة لدى العارفين والمتمكنين والمدركين لحقيقة هذا الخلق الرفيع ، فقلقد سئل السري السقطي رحمه الله تعالى مرة عن الحلم ما هو ؟ فقال للسائل أيَّ حِلْم تريد ؟ فإن الحلم خمسة أقسام : -

1- حلم غريزي ، وهو هبة من الله للعبد به يعفو عمن ظلمه ، ويعطي من حرمه ، ويصل من رحمه ، وإن قطعت .

2- حلم تحالم ؛ وهو : أن يكظم العبد غيظه رجاء الثواب ، وفي القلب كراهة .

3- حلم مذموم ؛ وهو : حلم العبد على مَن جنى عليه رياء وسمعة يعني : يرائي به جلساءه ؛ وهو حاقد ساكت .

4- حلم كبر ؛ وهو : أن الشخص لا يراه أهلا بأن يجاوبه ويرد عليه .

5- حلم مهانة ومذلة ؛ وهو أن يتجنب الرد لعدم قدرته على الخصم .

الحِلْم الحاضر الغائب I91006357_66383_4

التربيــــــــة والحـــــــــلم

الحِلْم الحاضر الغائب I106004545_62478

جاء في كتاب إحياء علوم الدين عند الغزالي في الحلم أحاديث، بعضها فيه ضعف ولكن بعضها يعضد بعضاً، وبعضها ينسب لبعض علماء السلف مثل القول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة نادى منادٍ: أين أهل الفضل.. ؟, فيقوم ناس وهم يسير فينطلقون سراعاً إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة فيقولون لهم: ما كان فضلكم ؟, فيقولون: كنا إذا ظُلمنا صبرنا، وإذا اسيء إلينا عفونا، وإذا جُهل علينا حلمنا,, فيقال لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين .

وروي أنه قال: إن الله يحب الحليم الحيي الغني المتعفف، ويبغض الفاحش البذيء وقال: أشدكم من غلب نفسه عند الغضب وأحلمكم من عفا عند المقدرة وقال : اطلبوا العلم واطلبوا مع العلم السكينة والحلم، ولينوا لمن تعلّمون ولمن تتعلمون منه، ولا تكونوا من جبابرة العلماء، فيغلب جهلكم حلمكم وروي أن من دعائه صلى الله عليه وسلم: اللهم اغنني بالعلم وزيني بالحلم وأكرمني بالتقوى وجملني بالعافية وقال عليه الصلاة والسلام: ابتغوا الرفعة عند الله، قالوا: وما هي يا رسول الله ؟ قال: تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتحلم عمن جهل عليك وقال خمس من سنن المرسلين: الحياء والحلم والحجامة والسواك والتعطر , وروي قوله: إن الرجل المسلم ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم

الحِلْم الحاضر الغائب I91006357_66383_4

مــن قصـص الحلمـــــــاء

الحِلْم الحاضر الغائب I106004545_62478

أشتهر بالحلم رجال عديدون في مجتمعنا العربي القديم فممن أشتهر به الأحنف بن قيس التميمي ، الذي وردت في عظم حلمه الكثير من الأخبار والأنباء ، والتي نورد منها هذه القصة الطريفة : -
أراد أحد الأشقياء أن يستفز الأحنف ويخرجه عن طوره وحلمه فهجم على خيمته والأحنف محتب بها كعادته عندما يجلس في الخيمة التي ينصبها لاستقبال زواره، وصاح في الأحنف قائلاً :
أين الأحنف.. الرجل الأحمق.. ؟! يريد إغضابه ليرد عليه بأي عبارة مماثلة ولكن الأحنف رد عليه بهدوء قائلاً له:
هذه ليست خيمة الأحنف يا بُنيّ ولكن الأحنف في الخيمة المقابلة!
ولما كان الرجل الشقي لا يعرف الأحنف ولم يقابله قط وإنما دفعه حمقه وشقاوته إلى محاولة استفزاز الأحنف بناءً على ما سمعه عنه من حلم وأناة فقد اعتقد أنه أخطأ حقاً في الدخول إلى خيمة غير خيمة الأحنف فانطلق باتجاه الخيمة المقابلة ودخلها بشكل هجومي مستفزاً الشيخ الذي فيها بالعبارات التي وجهها من قبل للأحنف بن قيس ، فما كان من صاحب الخيمة إلا أن استل سيفه وقطع به يد ذلك الشقي صارخاً به: أخرج من تحت سماء خيمتنا.. عليك اللعنة!
ولما عرف الشقي بما حصل له علّق قائلاً وهو يضمد جراح يده المقطوعة:

لقد قطع حلم الأحنف بن قيس يدي؟!
الحِلْم الحاضر الغائب I91006357_66383_4

أفضلية الحلم على العقل

الحِلْم الحاضر الغائب I106004545_62478

ومن بعد كل ما سلف لو تسألنا أيهما أرفع مكانة الحلم أول العقل ... ؟
قال بعض العلماء: الحلم أرفع من العقل، قيل له : ولِمَ ذلك ..؟! ، قال : لأن الله تعالى تسمّى بالحلم ، ولم يتسمّ بالعقل .

الحِلْم الحاضر الغائب I91006357_66383_4

خاتمــــــــــة

الحِلْم الحاضر الغائب I106004545_62478

أخي وأختي في الله
كما رأينا أن الحلم موروث عميق سجله ديننا الحنيف ، وجاءت أمثلته ونماذجة متمثلة في قدوتنا من السلف الصالح فكان حاضراً في كل ذلك فهل سيكون غائباً عنا وفينا ... ؟
لاريب أنه بعد ما تقدم ومعرفتنا لعِظم ما أعد الله سبحانه وتعالى للمتحلين بهذا الخلق الكريم ، وإدراكنا صوره في أسلافنا رحمة الله عليهم أجمعين لزم علينا أن نحاول جعله ديدناًً في حياتنا في البيت والشارع والعمل ومواطن الترفيه .. فهل سمعتني وتقبلت ما قلته لك ، لا ريب أنك ستكون أحرص مني في التحلي بهذه الصفة الجميلة لننعم بمجتمع راق في تعامله وليعود الحاضر الغائب حاضراً، وفقنا الله جميعاً لكل خير .. آمين .

الحِلْم الحاضر الغائب 994

لنستفيد مـــنك

مجــهــود جــبار 10/10

الله يعافيـــك
الحِلْم الحاضر الغائب 344756835

ابداع / ابداع
مشكووررر

بارك الله فيك
وجزاك الله خير