الفقر .. وما بعده .!

قبل أيام معدودة استيقظت " حارتنا القديمة " في الثالثة فجرًا على صوت ارتطام قوي جدًا
فأسرع الناس لمكان الصوت .. ليشاهدوا جثة الشاب سعيد معلقة بحبل وما زالت تتخبط بالجدران

سعيد انتحر .!!
يارب لُطفك ..!!
لا يا شيخ .. لا مو سعيد ؟
لا حول ولا قوة الا بالله .!

وبدأ كل ذي لسان ٍ يبدي اقتراحًا في القضية .. حتى جاءوا رجال الإسعاف ليسحبوا الشاب
من الحبل والذي أتمّ الساعة ميتا ً .. في منظر مُحزن تفطّرت له القلوب و أدمت له المحاجر

والد سعيد .. رجل معروف بهدوئه وقلة حيلته ايضًا .. يمتلك ورشة صغيرة في إحدى الشوارع الصناعية في وسط مكة
له من الوِلْد ِ ماشاء الله أن يلد .. الورشة الصغيرة وما بها من مفاتيح صَدِئة وبراغي مكسّرة .. هي مصدر قوته اليومي

ولعله من القلائل الذين يعودون للمنزل بـ 100 ريال في أفضل حالاتهم
سأله الوالد ذات مرة عن أبنائه .. ولماذا لا يأتون لمساعدته في الورشة

تنهّد تنهيدة طويلة وقال : ياليت يا استاذ .. لا هم فالحين في دراسة .. ونايمين طول يومهم
تخيّل أن هذا الرجل العجوز هو من يقوم بأمر هذه الأسرة كاملاً ثم يعود لمنزله بعد العشاء

ومعه خبز ولبن وان كان الربح وفيرًا زاد بما معه ليشتري شيئًا مُختلفًا حتى لا يشعر
الرجال النائمون بالملل اذا ما استيقظوا للعشاء .. يااااه يا أبو سعيد ..!! لهذه الدرجة .!؟

سألت أحدهم عما إذا كان سعيدًا رحمه الله - ولا أعلم هل تجوز الرحمة عليه -
يعاني من مشاكل نفسيّة .. فقال : يقولون - أي أن الحديث من وكالة يقولون -

أن أبا سعيد ما إن استوى على فراشه .. حتى بادره سعيد بـ ( زوجني يا أبي ) ..!
حينها ابتسم أبوه .. وقال : ( منين يا ولدي منين ..؟ ) ومد قدميه ليخلد للنوم

كانت الحادثة مُبكية .. ولا ألوم هذا الرجل الصابر إذا ما دخل على إثرها لـ " شهار "
50 ألف ريال لأفضل لاعب في كل جولة .. وخمسة ريالات تُحدث الفرق مع أبي سعيد .!

== مـنــقــول ==
-

كان لهذه الحارة قبل ستة أعوام .. عُمدة ( زعيم الحارة ) خبير وهو رجل محبوب من جميع ساكنيها وزوّارها
والذي جاء بفكر ٍ قبليّ بسيط جدًا وما إن اشتدّ و أصبح رجلاً حتى رشّحه الناس ليصبح متحدّثًا عمّا ينوبهم

كان هذا الرجل - رحمه الله - يعسّ ليلاً وينشط نهارًا .. يحاول أن يجمع بين أسرته
وضيوفه وحارته .. وظل في هذه الوظيفة الحكومية دهرًا طويلاً إلى أن توفاه الله
ولمن لا يعرف دور العمدة الحقيقي تلك السنين .. كان العمدة ( الكل في الكل ) يقف على رأس الهرم
الإجتماعي في المُدن و الأحياء .. حتى أن الملوك إذا كانوا في زيارة للمدينة يستدعون عُمَد الأحياء أولاً

والد سعيد .. رجل معروف بهدوئه وقلة حيلته ايضًا .. يمتلك ورشة صغيرة في إحدى الشوارع الصناعية في وسط مكة
له من الوِلْد ِ ماشاء الله أن يلد .. الورشة الصغيرة وما بها من مفاتيح صَدِئة وبراغي مكسّرة .. هي مصدر قوته اليومي

كلمة ( الكل في الكل ) في حق العمدة السابق كانت قليلة .. فكان عند مكتب كل عُمدة عسكري يوضع من
الحكومة ينفذ كل ما يقوله العمدة وبالحرف .. أي أن عمدة الحارة ينوب عن الملك في هذ الحيّ الصغير

تنهّد تنهيدة طويلة وقال : ياليت يا استاذ .. لا هم فالحين في دراسة .. ونايمين طول يومهم
تخيّل أن هذا الرجل العجوز هو من يقوم بأمر هذه الأسرة كاملاً ثم يعود لمنزله بعد العشاء

بعد كل هذا الحديث عن دور العُمدة القديم .. سيتبادر إلى ذهنك سؤالاً مهمًّا عزيزي
أين العمدة الجديد مِن وضع أبو سعيد .. ومعيشته الصعبة و مشاكله الأسريّة ؟

سألت أحدهم عما إذا كان سعيدًا رحمه الله - ولا أعلم هل تجوز الرحمة عليه -
يعاني من مشاكل نفسيّة .. فقال : يقولون - أي أن الحديث من وكالة يقولون -

الناس في الناس .. والعنزة في النفاس

أحد الزملاء في الجامعة يحكي لي عن صديقه البالغ من العمر 26 عامًا
وكان يتصفح جريدته الصباحية ليشاهد إعلان عن ( تقديم عُمَد ) في مدينة مكة

يقول أنه ذهب مسرعًا ليرمي بأوراقه رمية الحظ .. والآن هو العُمْدة لهذا الحي الكبير
يا حلاوة .. يا حبيبي كل شيء لايق عليك .. قد يكون قاد حيّه باقتدار الى بر الأمان

مع أني متأكد أنه عُمدة للختم و أوراق التعريف .. إذا ما أخذنا بعين الاعتبار انه كان
يتصفح الجريدة وشاهد الإعلان أي أنه لم يكن ليذهب لو لم يتصفح جريدته ذاك الصباح

كان العمدة سلامة - العمدة القديم - يجتمع برجال الأسر الغنية في حارتنا القديمة
ثم يخرج مبلغًا من جيبه ويقول : فلان , وفلان , وفلان لهم من الأبناء كذا وكذا

وما يتقاضوه من أجر لا يكفي لسد حاجاتهم .. فما رأيكم ..؟
واستمر على هذه الحال .. يطبّق الدور الحقيقي لعُمدة الحي

حينها كانت الحارة في تكافل اجتماعي جميل .. وعندما ذاع صيت الرجل
أمرت الدولة بزيادة المساحة التي كانت تحت إمرته لتتسع لثلاثة أحياء

توفي الرجل بعد ما سدد آخر ديونه بثلاث دقائق فقط .!

-

يقول والدي .. ولدتم والمكيف يهف عليكم .. وتقول أمي ولدتم وفي فميَّكم * ملعقة من ذهب
لعل هذه الكلمات تفسّر حال أبناء أبو سعيد .. فكما أن للعمدة الجديد جزء من المسؤلية فيما حدث

ايضًا لأبناء الرجل جزءٌ من ذلك .. وهذا ما يسري عليَّ أنا ايضًا ففي بعض الأحيان
أنظر لنفسي على أني مثال سيئ للرجل .. فليس كل من دعى أصدقاءه لوليمة رجل ..!

وليس كل من اخشوشن صوته و وانفرج لسانه أصبح رجلاً ..!

الرجل الحقيقي هو من يشابه أبو سعيد .. أقسم بالله أنه رجل ٌ عجوز يعيل أسرة ً
كاملة بها من الشباب ما لا أستطيع حصره الآن .. يستيقظ في الصباح الباكر

ثم يذهب لورشته الصغيرة والتي أصبح لونها برتقاليًا من صدأ البراغي والمفاتيح الحديدية
يا فتّاح يا عليم .. هذا أول زبون .. سيارته تحتاج لتغيير اللديتر . ينهره الزبون ويتوكل ..!

فيها إيه .؟ لو كان أحد أبنائه يعمل معه .. يتعلم هذه المهنة اليدوية والتي تندرج تحت
قائمة " مِهَن الإبداع " .. فأنت و أنا وذاك لنا حلاق معيّن نتجه له بين الفينة والأخرى

ايضًا لنا مهندس سيارات معيّن لا نثق في احد ٍ سواه .. سعره طيب .. وشغله نظيف
وبما انك فشلت في دراستك .. قد تنجح في عملك وتصبح " ريّس الصنايعيّة " .!؟

و أكثر مدينة ينجح بها ريّس الصنايعية هي مكة لو كنتم تعلمون

== مـنــقــول ==
-

نسأل الله العفو والعافية

ونعوذ بالله من الفقر والديْن وقهر الرجال

ونحمد الله على عافيته ونعمه التي لا تحصى

ولكن اعتقد أنك علّقت الكثير من الاتهامات برقبة هذا العمدة
فالحواري اصبحت احياء واصبح الجيران لايعرفون بعضهم البعض
فالمشكلة تتخطى قدرة العمدة بمراحل

الفقر .. وما بعده .! 24878_1189177374